إعادة بناء منظمة التحرير- المؤتمر الوطني الفلسطيني ومفترق طرق المصير.

خلال أيام معدودة، يلتئم شمل المئات من الشخصيات الوطنية الفلسطينية في الدوحة، تحت راية "المؤتمر الوطني الفلسطيني"، الذي يمثل "حراكًا شعبيًا دؤوبًا ومتواصلًا من داخل الوطن وخارجه". يهدف هذا المؤتمر في نهاية المطاف إلى إعادة صياغة منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون إطارًا وحدويًا شاملًا تحت قيادة وطنية موحدة، قادرة على مواجهة التحديات الجسام التي يمر بها الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ومقاومته المشروعة.
يمكن القول بثقة، إن "المؤتمر الوطني" ما هو إلا تتويج لسلسلة من المبادرات القيمة التي انطلقت عقب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، سواء من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو خارجها. هذه المبادرات تصب في مجملها في خانة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، و بناء مرجعية وطنية عليا للشعب الفلسطيني، تتجاوز فكرة انعقاد الإطار القيادي الموحد، وتوفير شبكة أمان قوية للمقاومة والمشروع الوطني. كل ذلك يأتي لمواجهة شراسة حرب التطويق والتطهير والإبادة، ومشاريع الضمّ والتوسع والأسرلة والتهويد والفصل العنصري البغيض والتهجير القسري، والتي تستهدف غزة في المقام الأول، ثم تمتد لتطال الضفة والقدس وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في صميم هذه المبادرات، تترسخ قناعة جماعية راسخة بأن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لم تقوما بالدور المنوط بهما في مواجهة هذه الحقبة المظلمة من الحرب الصهيونية – الإمبريالية الشرسة على الشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته وحقوقه المشروعة. ومع ذلك، لم يمنع هذا الإجماع وجود تفسيرات وتقييمات متباينة لأداء "المؤسسة الرسمية الفلسطينية"، حيث تراوحت الآراء بين من يصفها بـ "العجز والتقصير" ومن يتهمها بـ "التواطؤ"، بل وحتى "التورط" في مساعي إخماد مقاومة الشعب الفلسطيني، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة.
إن هذا الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي ومفهوم، بالنظر إلى تعدد مشارب المبادرات والمبادرين، وتبَاين مرجعياتهم السياسية والفكرية. إضافة إلى ذلك، تلعب السياقات السياسية والأمنية المختلفة التي يعملون فيها دورًا في تحديد حساباتهم وارتباطاتهم، ومخاوفهم وتطلعاتهم.
هذا التباين في الخلفيات والدوافع سيؤدي حتمًا إلى تباين في "الرهانات والتوقعات"، وقد يخلق أيضًا "تجاذبات" حول الخيارات المتاحة للمستقبل، وكيفية الاستجابة لهذه اللحظة الفلسطينية الحاسمة بمقتضياتها وتحدياتها. هذا الأمر يضع المؤتمر والمشاركين فيه على مفترق طرق بالغ الأهمية، حيث يواجهون ثلاثة خيارات محورية ستحدد مسار هذه المبادرة وتأثيرها، وما إذا كانت ستكتسب أهمية تكتيكية مؤقتة، أم ستترك بصمة إستراتيجية دائمة على المشهد الفلسطيني برمته:
الخيار الأول
أن يتحول المؤتمر إلى جماعة ضغط نافذة، تستكمل المسيرة التي بدأتها جماعات ضغط أخرى، نمت وترعرعت على خلفية الانقسام الفلسطيني المرير والمستمر. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه "الجماعة" تتميز بثقل أكبر وتنوع أوسع، وتحظى بحضور وازن، كما أن الظروف الوطنية والإقليمية والدولية المحيطة بعملها تمنحها قدرة أكبر على التأثير.
هذا التوجه مشروع تمامًا ولا ينتقص من قيمة المؤتمر. إنه يفرض على المجموعة اختيار الأدوات والأساليب التي تتناسب مع وظيفتها، ففي حين أنها قد تلجأ إلى تعزيز فكرة "الحوار" و"محاولات الإقناع" بجدوى الإصلاح والنهوض، إلا أنها لن تتخلى عن أساليب الضغط "الناعمة" في سياق أدائها لمهمتها. وهنا يبرز سؤال هام: كيف يمكن للحوار والضغط الناعم أن يحققا التغيير الذي بدا عصيًا على كافة المبادرات السابقة، سواء من داخل الجسم الفلسطيني أو من أطراف عربية ودولية مؤثرة؟
العديد من أبناء الشعب الفلسطيني، وبعد عقدين من المناشدات والضغوط من أجل استعادة الوحدة، وأربعة عقود من المبادرات التي تهدف إلى "إصلاح منظمة التحرير"، أصبحوا أقل ثقة في جدية هذا المسار. فالانقسام السياسي، الذي تعمق إلى انقسام مؤسساتي وعززه انفصال جغرافي بين غزة والضفة، يجعل من الصعب ردم الفجوات التي زلزلها السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وزاد من عمقها، خاصة بعد أن أدت الأحداث إلى ترسيخ الانقسامات بين الأطراف: حماس بلغت ذروة غير مسبوقة في مشروعها المقاوم، في المقابل السلطة انحدرت إلى مستوى غير مسبوق في التساوق مع مخرجات الحل الإسرائيلي ومتطلباته الأمنية والسياسية.
وحتى لو افترضنا أن مقتضيات ما بعد وقف إطلاق النار في غزة قد تفرض شكلًا من أشكال "زواج المصلحة" بين الطرفين، إلا أن فشل كافة الجهود السابقة لاستعادة المصالحة والوحدة يشير إلى أن هذا الطريق مسدود، وأن أي محاولة لإعادة فتحه ما هي إلا ضرب من العبث، وأن توجيه هذه الجهود إلى مسارات أخرى قد يعود بفائدة أكبر على الشعب الفلسطيني وقضيته ونضاله.
هذه القضية تحتاج إلى تفكير عميق وتدبير حكيم، ليس فقط من قبل المؤتمر والمشاركين فيه، بل من قبل جميع الفلسطينيين وأصدقائهم.
الخيار الثاني
اختزال عمل هذه المجموعة من الشخصيات الفلسطينية البارزة إلى مجرد أداة لإنتاج "سلطة/ منظمة بنسخة مطورة"، من خلال إدخال بعض الإصلاحات الشكلية على هيكلها وأدائها، كضمان مشاركة رمزية لهذا الفصيل أو ذاك (من فصائل المنظمة أو من خارجها)، أو تعديل شروط عمل هذا التيار من التيارات المكونة للسلطة وفتح والمنظمة.
على الرغم من أن هذا الرهان ينطوي على قدر كبير من المخاطرة، إلا أنه يبقى ممكنًا، خاصة وأن التجربة الفلسطينية، المليئة بالمقايضات والمحاصصات، أبقت الكثيرين في الدائرة الرسمية الفلسطينية، على الرغم من أن وجودهم في الدائرة الشعبية يكاد يكون معدومًا.
هنا يجب التنبيه إلى أن التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني أكبر بكثير من هذه الحسابات الضيقة والمحدودة. فالمؤتمر، الذي يجب أن يكون رافعة وطنية قوية لحالة نهضة واستنهاض، لا ينبغي أن يتحول إلى مجرد أداة تفاوضية لتحسين موقع هذا الطرف أو ذاك، ولا يجب السماح بتحويله إلى وسيلة لتحسين شروط بعضهم التفاوضية مع القيادة المتنفذة في منظمة التحرير.
مثل هذه المقاربة، والمقاربة الأولى إلى حد كبير، تقيد عمل المؤتمر والمشاركين فيه، وتحول دون خوضهم منافسة جادة للقيادة الرسمية، على كل موقع وشبر في الداخل والخارج، سواء في معركة كسب الرأي العام أو في التنازع على البنى التحتية لمنظمة التحرير. هذا الأمر سيطيل أمد الانقسام بدلًا من تقصيره، وسيضع مصير الشعب الفلسطيني بين يدي قيادة يرى الكثير من الفلسطينيين أنها لم تعد جديرة بالثقة لتمثيلهم والتحدث باسمهم، كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي المتتالية، ولجوء القيادة ذاتها إلى تعطيل الانتخابات العامة خشية من نتائجها، دائمًا بحجج وذرائع ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
إن التحذير من السير في هذا الطريق يبدو ضروريًا للغاية، والعمل يجب أن يركز في بدايته على ضمان خطوة تأسيسية منسجمة مع الحاجة الوطنية لتشكيل قيادة وطنية فلسطينية تعبر بشكل كامل عن تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله، وتعكس الضمير الجمعي للمبادرات والمبادرين الذين سيتوافدون إلى الدوحة تحت مظلة "المؤتمر الوطني الفلسطيني".
حتى لو كان من يفكرون بهذه العقلية لا يشكلون أغلبية بين الحاضرين، فإن الحاجة إلى التنبيه من مخاطر الانزلاق إلى طريق معروفة نهايته مسبقًا تبقى قائمة.
الخيار الثالث
وهو الخيار الأصعب على الإطلاق، أن يتصدى المؤتمر والمشاركون فيه لمهمة شق طريق جديد أمام حركة وطنية فلسطينية متجددة، قادرة مع شعبها على دخول مرحلة إستراتيجية جديدة. هنا يمكن فتح باب النقاش حول عنوانين رئيسيين:
- الأول: الحديث عن "طريق ثالث"، وهو أمر قد لا يحظى بإجماع المؤتمر والمشاركين فيه، الذين ينتمون إلى مرجعيات متنوعة. فالعديد منهم يحضرون المؤتمر بهوية مزدوجة: أعضاء أفراد بصفتهم الشخصية، وفي الوقت نفسه يشغلون مناصب قيادية مرموقة في فصائلهم المنقسمة فيما بينها.
هنا يجب التمييز بين حاجة الفلسطينيين إلى "تيار ثالث"، وهو أمر يمكن الجدال حول أهميته وضرورته، وبين قدرة هذه الجماعة (المؤتمر والمشاركين فيه) على أن تكون هي بذاتها هذا "التيار الثالث".
من ناحية أخرى، فإن الحاجة ماسة لهذا التيار، ولكن ليس المؤتمر بتركيبته الحالية هو "الجهة القادرة" على إخراجه إلى حيز الوجود. يجب البحث في مكان آخر، مع عناصر أخرى، بعضهم من بين أعضاء المؤتمر، لإنجاز هذه المهمة.
- الثاني: تشكيل عنوان ثانٍ للشعب، بعد أن فشل العنوان الأول في اختبارات التاريخ، ولم يعد مؤتمنًا على قيادة سفينة التحرر الوطني إلى بر الأمان. هذا الخيار الذي انطلقت منه مبادرات فلسطينية عدّة، ليست ممثلة تمثيلًا كاملًا في "المؤتمر"، والمؤتمر بوضعه الحالي ليس مؤهلًا لأن يكون هذا العنوان.
هذا الخيار يثير أسئلة ظلت محظورة حتى يومنا هذا، منها: ماذا عن "الممثل الشرعي الوحيد"؟ وهل المطلوب بناء منظمة بديلة أو موازية؟ وماذا عن التجارب والمحاولات الفاشلة التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية طيلة العقود الماضية؟
تُلقَى هذه الأسئلة في وجه أي محاولة لتحدي قيادة السلطة والمنظمة، حتى وهي تنخرط في أسوأ السياسات التي تلحق أفدح الأضرار بالشعب الفلسطيني وقضيته، وتُستَحضر أسوأ تجارب الفشل والتدخلات الخارجية، من أجل "إفشال أي محاولة تغيير".
في الماضي، كان للفلسطينيين عنوانان: الشقيري والمنظمة، وقيادة فتح والفصائل الأخرى. الأولى كانت تتمتع بـ "شرعية رسمية بلا قاعدة شعبية متينة"، والثانية بـ "شرعية ثورية بقاعدة شعبية عريضة"، إلى أن اندمجت الشرعيتان في جسم واحد.
اليوم، ومع اختلاف الظروف، هناك تشابه كبير: هناك "شرعية رسمية بلا شعبية"، وهناك "مقاومة شعبية لا صفة رسمية تمثيلية لها". حل هذه الثنائية يمثل معضلة حقيقية إذا أردنا للحركة الوطنية الفلسطينية أن تتجدد.
لم تواجه حركة فتح صعوبة كبيرة في تحقيق المزاوجة بين الشرعيتين، بدعم من النظام العربي ومناخات الحرب الباردة والطبيعة الوطنية/العلمانية للحركة الوطنية في ذلك الوقت. أما اليوم، فالوضع مختلف، وهناك عوائق تحول دون نجاح حماس في تحقيق هذه المزاوجة، وتجعل مهمتها أكثر صعوبة.
أحد أسباب إخفاق حماس في تحقيق هذه المزاوجة المطلوبة هو عدم تبنيها إستراتيجية تقوم على "الشراكة والمشاركة" مع بقية مكونات الشعب، وميلها كما باقي الفصائل إلى الهيمنة والاستئثار، بالإضافة إلى تأثرها بمدرسة "التمكين".
اليوم، بعد الأحداث الأخيرة، نفترض أن تكون المقاربة قد تغيرت، وهذا ما سمعناه من قيادة حماس، وما رأينا بعض الشواهد عليه في تجربة الدفاع عن غزة.
المطلوب اليوم هو الذهاب لتشكيل عنوان فلسطيني ثانٍ، وعدم ترك "المقاطعة" في رام الله لتكون هي العنوان الوحيد للشعب الفلسطيني.
المطلوب اليوم من حماس قبل غيرها، أن تتخذ زمام المبادرة على هذا الطريق، وأن تظهر بالفعل أن منطق الشراكة هو المنطق الحاكم لمشروع "جبهة وطنية فلسطينية متحدة"، تضم كافة فصائل المقاومة وتياراتها، وكافة المبادرات والشخصيات والتجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج، والمنظمات الشعبية، والحركات النسائية والشبابية، والأكاديميين، مع تركيز خاص على الأجيال الشابة.
يجب أن تجد أي جهة تضطر لزيارة رام الله للتعامل مع القضية الفلسطينية، نفسها مضطرة - من الناحية العملية على الأقل- لمخاطبة العنوان الثاني، وألا شيء يمكن أن يحدث دون موافقته. يجب أن يكون هذا هو الوضع بانتظار اللحظة التي يمكن فيها استعادة المنظمة والمنظومة السياسية الفلسطينية برمتها.
يجب ألا يركن العالم إلى قرارات فردية، فالشعب الفلسطيني في مكان آخر، ولا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه، خاصة بعد عقدين من الفشل المتراكم. والوحش الإسرائيلي يفتح فاه لالتهام ما تبقى من أرض وحقوق، وشبح التهجير يخيم على سماء فلسطين.
هذا التوجه يستدعي التخلي عن فكرتين يتم الترويج لهما:
- الأولى؛ أن "اعتدال" الفلسطيني هو شرط بقائه على أرضه.
- والثانية؛ أن الإسلام السياسي مطروح للشطب فقط.
أعتقد أن "المؤتمر الوطني الفلسطيني" يمكن أن يلعب دورًا محفزًا في تشكيل هذا العنوان الوطني الثاني، ولكنه لا يمكنه أن يكون كذلك بنفسه. ومع ذلك، يمكنه العمل على خطين متوازيين:
- الأول؛ مع فصائل العمل الوطني والإسلامي المقاوم.
- والثاني، مع الشخصيات الوطنية والشبابية التي يجب إدماجها في "الجبهة الوطنية المتحدة".
لا بأس أن يكون المؤتمر جماعة ضغط للمصالحة والحوار، ولكن الوظيفة التاريخية التي يجب أن تبقى نصب أعين الجميع هي التصدي لسؤال القيادة والتجديد للحركة الوطنية الفلسطينية، بما يؤهلها للاضطلاع بمسؤولياتها التاريخية الجسيمة.